الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إبراهيم بن صالح الدحيم رحمه الله رحمة واسعة (خطبة)
ونحن نتحدث عن العزة لسنا نصب في الأمة قوة ليست فيها… ولا نشعل في نفوسها همة ليست لها, إنما نكتب نثير القوة الكامنة فيها, ونضرم جمرة الحماس التي غطاها رماد الكسل وأخفاها غبار الخمول!! ليس حديث العـزة بدعًا على هذه الأمة ولا مستغربًا فيها, فهي نبع العز, ومهد البطولات.
كتبت أقول .. من نحن؟! وما موقعنا في الحياة؟… وما هو الدور اللائق بنا؟…
نحن المسلمون.. أعز جندًا.. وأشد ركنًا.. وأعلى مكانًا.. وأكرم حالاً {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] نحن الأعلى سندًا ومتنًا، أنتم الأعلون. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم. أنتم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة. وأنتم الأعلون ارتباطًا وصلة بالعلي الأعلى. وأنتم الأعلون منهجًا وهدفًا وغاية. وأنتم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا.. ثم.. أنتم الأعلون قوة ومكانًا ونصرة. فمعكم القوة الكبرى {والله معكم}… يدافع عنكم. فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم؟!… فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم من يقرر الله له أنه الأعلى. وأنه معه. وأنه لن يفقد شيئًا من عمله. فهو مكرم منصور مأجور …’
إن الاستعلاء الحقيقي: هو الاعتزاز بالله تعالى وبدينه والسير على صراطه المستقيم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون 8 ].
الاستعلاء الحقيقي يكون بارتفاع النفس وصيانتها عن كل مذلة لغير الله وعن كل دنس قد يصيبها, استعلاء على الظلم والعدوان … استعلاء على المغريات والشهوات… استعلاء على القيم الزائفة والمبادئ الضالة.
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيـد أذلـه الله.
الاستعلاء الحقيقي الذي يجب أن يشعر به المؤمن ليس مقتصرًا على ساعات النصر والغلبة والرخاء, بل المؤمن مستعلٍ في كل أحواله, مستعلٍ حتى لو كسرته الحرب وأقعدته الجراح, وهذا ما دل عليه التوجيه القرآني للمؤمنين {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] فإن هذه الآيات نزلت على إثر ما وقع للمسلمين في هزيمة أحد. وهذا ما عرفه الأعداء عن المسلم الحقيقي, يقول ‘كونتنس’: ‘إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم عزة في النفس, فهو سواء في حالة بؤسه ونعيمه, لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله’.
إن أمتنا ستظل ضعيفة وستخمد طاقاتها حين لا تعرف إلا اللَّكمات والضربات, ستظل تابعة ذليلة حين تنسى أنها كانت قبل قائدة رائدة, سترضخ للضغوط حين تستبدل القمة بالوديان, ستبيع دينها من أجل شربة ماء حين تجهل أنها كانت تسقيه بالدماء!
إنه لابد لتحقيق ريادة الأمة وحفظ مكانتها, أن تنفخ فيها روح العزة والإباء, وأن تربى على ذلك. ولابد في زمن الذل والهوان والدعة والتبعية, في زمن الركون إلى الحياة المادية, أن يثار الغبار عن صفحات التاريخ, وأن تسل من أعماقه ملاحم العز وأيام الفتح وليالي النصر,حتى تقرأ الأجيال ماضيها, فيجري ماء الحياة فيه.
فدعونا نستنطق التاريخ, ونقلب صفحاته بحثًا عن تلك الصور المشرقة والمواقف الخالدة, لرجالٍ ما خنعوا ولا خضعوا لغير الله, نفوس استلذت الموت على حياة الذل والاستعباد. فاقرأ أحاديث العزة مشرقة كالشمس, لامعة كالنجم, عذبة كالماء الزلال, تضيء طريق السالك, وتبدد الظلام الحالك, فما أجمل أن نتصل بالماضي الزاهر, ونكتب تحت ضوئه خطة المستقبل المشع بالأمل.
على بلاط الأندلس:
يوم كانت أمتنا تعرف مكانها بين الأمم وتعتز بدينها.. كانت أمة مهيبة تُرهب الأعداء. لقد كانت كنائس أوروبا لا تجرؤ على دق نواقيسها حين كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط, لقد كنا إذ ذاك سادة الدنيا وقادة العالم، ومنبع العلوم والمعرفة, وفي وضع أشبه ما يكون بالخيال حين تقارنه بتلك الحال, هبطت أمتنا من القمة إلى القاع, ونزلت عن متن العز, فمدت يدها للكافر تستجديه, تنتظر منه قرارًا يحمي أرضها, ويوقف نزيف دمها! وأما حين تريد أن تتذكر الأمجاد فهذه رسالة من أحد ملوك الغرب يتوسل إلينا لأجل تعليم أبنائهم في بلادنا! يوم كان لنا في الأندلس دولة؟! فاقرأ وقل: رحم الله تلك الأيام.
‘من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة: ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة: هشام الثالث، الجليل المقام, بعد التعظيم والتوقير, فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل, لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أركانها الأربعة! ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة ‘دوبانت’ على رأس بعثة من بنات أشراف إنجلترا لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف! لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، ولقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص!] ووقع أسفلها: من خادمكم المطيع: جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج.
نحن الصقور على الذرى تصغي لوسوسة القمر
لا كالغراب يطــارد الجيف الحقيرة في الحفر
فهل يعي هذا جيدًا أولئك الذين يموتون في أحضان الغرب، والذين لا يرون العز إلا في موالاتهم ومحبتهم, ولا الرقي إلا في السير على طريقهم؟!!
إن ما تنعم به أوروبا اليوم من تطور ورقي فالفضل فيه يعود إلى المسلمين في حضارتهم الأولى التي أنارت وجه الأرض يوم كانوا بدينهم مستمسكين وبحبل ربهم متصلين, وقد شهد بذلك بعض عقلاء المستشرقين الذين يكتبون لبيان الحقيقة لا للسياسة: ‘إن نشأة أوروبا الحديثة إنما كانت رشاشًا من نور الإسلام فاض عليها من الأندلس ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الشرق والغرب’.
عند أسوار الصين:
هذه الصورة نقف فيها على مشارف الصين, لا لننظر إلى سورها العظيم فما لنا به حاجة, ولا لنهتبل صفقة تجارية رخيصة, ولكن لنقرأ صفحة العز هناك!!روى الطبري في تاريخه قال: ‘وَغَلَ قتيبة حتى قرب من الصين. قال: فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونُسائله عن دينكم. فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً ـ وقال بعضهم: عشرة ـ من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس، بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه. فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولاً وجمالاً، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح, والمتاع الجيد من الخز والوشي, واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودواب يركبونها. قال: وكان هبيرة بن المشَمْرَج الكلابي مفوهًا بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير. قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله. وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق. لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
قال: فساروا، وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابًا بياضًا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قومًا ما هم إلاَّ نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده. قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمَطَارِف، وغدوا عليه.
فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى، وهم أولئك. فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم, ثم أقبلوا نحوهم مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم. قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها.
فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط. فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إليَّ زعيمكم وأفضلكم رجلاً. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتهم عظيم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي. وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم. قال: سل قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزِّي في اليوم الأول والثاني والثالث؟ قال: أما زينا الأول فلباسنا في أهلينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا. قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، و إلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه.
قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصًا من خلف الدنيا قادرًا عليها وغزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه، قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. قال : فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فَقَبِل قتيبة الجزية، وختم الغِلْمة وردهم، ووطئ التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي:
للصـين إن سلكــوا طرق المنهج لا عيب في الــوفد الذين بعثتهم
كسروا الجفون على القذى خوف الردى حـاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غـير الختم في أعنــاقهم ورهــائن دفعت بِحَملِ سمرَّج
أدى رســـالتك التي استرعيتـه وأتــاك من حنث اليمين بمخرج
رحمك الله ياشيخي ابــــــــاحذيفة