في يوم الإثنين 15/9/1429هـ غيبت المنون علماً من أعلامنا، وفارساً من فرسانِنا، كان فارساً لا يخشى الردى، ومِقداماً لا يهاب العِدى.
نعم..رحل عن دنيانا فارس الدعوة؛ والمربي القدوة؛ فضيلة الشيخ إبراهيم بن صالح الدحيم، رفع الله درجاته في عليين،وأنزله منازل الأبرار، وجمعنا به ووالدينا في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اشتهر بين القريب والبعيد والخاصة والعامة بكنيته (أبو حذيفة) فذكرني وأنا إذاك في أيام الصِبا، بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ فالتكنّي بأسمائهم؛ يبعث في النفس التأسي والاقتداء بهم.
بلغني نعيه، فقلت ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم:"إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"
بكيته كما يبكي الصبي أمه، وبعد أن استرجعت وحمدت الله تعالى، تأملت سنته تعالى في خلقه (إنك ميت وإنهم ميتون) وأن هذه المصائب لا تخرج بحال عن تقديره وقضائه ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم)
قال علقمة رحمه الله تعالى: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم.
وقفت على قبره وكنت ساعتها أجاهد النفس وأتصبر، (فإنما الصبر عند الصدمة الأولى) كما قال صلى الله عليه وسلم .
فوا لهـفي والقـبرُ بيـني وبينـه ... على نظرةٍ من تلكمُ النظراتِ
وقفت عليـه حاسرَ الرأس خاشعاً ... كأنّي حيال القـبر في عرفاتِ
بكى الناس فارتجت له الأرض رجّة ... وضاقت عيون الناس بالعبراتِ
في تلك الساعات العصيبة حاولت أن أكتب شيئاً ينفّس أحزاني، ويخفف أشجاني، غير أنَّ عبراتي استحكمت عِباراتي، واستعصت أناملي – فَرَقاً - أن تخط كلمة رثاء في أخي وحبيبي.
ثم لاحت لي مرثية أبي الحسن التهامي في ابنه:
حكم المنيـة في البرية جاري ... ما هـذه الدنيـا بدار قرارِ
جاورت أعدائي وجـاور ربه ... شتـان بين جواره وجواري
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدارِ
ومكلف الأيـام فوق طباعها ... متلمس في الماء جذوة نارِ
حقاً..هذه دنيانا..طبعت على كدر..فمن تكلف غير طبعها فقد تلمس في الماء جذوة نارِ!
وبعد المصاب بليال وأيام استجمعت قواي وشحذت همتي؛ لأحرر كلمات وفاءٍ في فقيدنا الغالي أبي حذيفة قدس الله روحه. فإذا أنا بالأوفياء كثير ممن جادت قرائحهم شعراً، وفاضت أقلامهم نثراً، وأمثال أولئك أضعافاً مضاعفةً من لهجت ألسنتهم بالدعاء له سراً وجهراً.
فقلت في نفسي...الله أكبر...ما أعظم أثر العلم، وما أروع بركة الدعوة...ألا ما أبرهما بأهلهما أحياءً وأمواتاً.
لم يكن الوفاء للشيخ من محبيه وإخوانه وتلاميذه فحسب، بل كان من الناس قاطبة، وما مشهد جنازته المهيب، إلا شاهد حق، وموعد صدق، بإذن الله تعالى.
ولد أبا حذيفة رحمه الله عام 1389هـ وتوفي عام 1429هـ ، أربعون عاماً لم تزد. الأربعون يعيشيها كثير من الناس، ولكن ماذا سطروا فيها من ذكريات وأعمال؟
أما أبو حذيفة فقد عاشها لله تعالى (كذا أحسبه ولا أزكي على الله أحداً). ممتثّلاً قول الله تعال (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
إني لأجزم أن من قرأ سيرة هذا الفارس، وما أُثر له من علم ودعوة وجهاد، ليحسب _ إن لم يكن يعرفه _ أن الرجل من الستين قاب قوسين أو أدنى.
وهكذا العظماء تُسطر إنجازاتهم ومآثرهم؛ فإذا وزنت بأعمارهم فإذا أعمارهم تنوء بحِمل أمجادهم. ولا غرو ففي مثله يصدق قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
كنت أقرأ في سير النبلاء من العلماء والدعاة، من مات منهم في أشدّه أو إبان كهولته، أمثال الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه (37سنة)، وكذا ابن عبدالهادي الحنبلي(39سنة) وغيرهم، وإني لأحسب أبا حذيفة من تلك الكوكبة المنيفة العطرة رحمة الله على الجميع.
إن المواقف التي كانت لفقيدنا كثيرة تعزِّ عن الحصر، وأحسِب أن الإخوة المشايخ وطلاب العلم وتلاميذ الشيخ؛ لديهم من المواقف الشيء الكثير. فقد قرأت عنها وسمعت، وما لم أحط به أكثر. ولعلي أعرض لبعضها إبرازاً لجوانب من سيرته المباركة:
فمن ذلك: عنايته رحمه الله بجانب الإخلاص لله تعالى، وإن كان هذا الأمر سرٌ بين العبد وربه، إلا أن له أماراته التي تظهر، فقد كان رحمه الله شديد العناية بهذا الجانب، حتى إني لمست ذلك منه في أكثر من مناسبة، ربما أردت منه موعداً، أو ألحّ عليه أحد إخوانه بحاجة، فيعتذر بأن لديه ارتباط، فإذا تحريت الأمر وجدته: إما إلقاء درس أو محاضرة أو عبادة.
كان يؤكد على أمر الإخلاص في كل مناسبة، أذكر بعض الاجتماعات يبدأها بالتذكير بالإخلاص والدعاء بأن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى.
كان يربي الشباب على ذلك، وما أكثر ما سمعته يقول لإخوانه: احتسب أجرك على الله تعالى.
وأحسب أن الرجل بورك له في كثير من أعماله بسبب هذا، وليس ببعيد أن له خبيئة من عمل صالح كانت بينه وبين ربه تعالى.
كما كانت عنايته بجانب الإيمان والتربية عناية فائقة، فقد كان يغذي روحه بالإيمان، كما يغذى الجسد بالطعام. وعلى هذا تربى على يديه جمع من الشباب، ولا أحصي عدد الدروس والكلمات التي ألقاها في هذا الجانب، وإن نسيت فلا أنسى درساً إيمانياً في رحلة إلى مدينة أبها، ألقاه رحمه الله لا زال صداه في نفسي، منذ أكثر من 18عاماً.
لقد كنت كغيري ألمس في حديثه الصدق والإخلاص.ولا أزكيه على الله تعالى.
ولربما خصّ درساً من دروسه في الجامع للعناية بهذا الجانب، لأنه يدرك رحمه الله أثر الإيمان في تهذيب الأخلاق والسلوك.
أما زهده وورعه فأمر ظاهر، فمن عاشره بدى له ذلك دون تكلّف أو تشدد. فقد كان مُعرضاً عن المظاهر والكماليات، بسيطاً في هيئته، ولا أدل على ذلك من ملبسه ومركبه. ومِن ورعِه أنه كان يزري بنفسه بين إخوانه وطلابه.
وما رأيته رحمه الله في موقف إلا وجدته كسائر الناس. مجانباً للشهرة وحب الظهور، متخفياً في عمله، متنسكاً لربه.
وقريباً من ذلك تواضعه ولين جانبه، فقد كان سمحاً في تعامله، قريباً من الناس عامة، ومن الشباب خاصة، لا يتردد مريدوه من الإدلاء عليه، ومصارحته وطلب معونته. تجد علاقته بالناس كعلاقة الأخ بأخيه، حتى لربما ظن البعض أن له عند أبي حذيفة منزلة وحظوة ليست لغيره من الناس، ومن تواضعه أنه لا يأنف مجالسة الشباب وإن كانوا صغاراً، ولربما رأيته راكباً مع طلابه، وأكثر أحواله يصطحبهم معه في رحلة أو زيارة أو دعوة. وحادث وفاته مع تلاميذه نموذج لذلك. ومواقفه في هذا أكثر من أن تحصر.
ولست أبالغ حين أقول؛ إن زهد أبا حذيفة وتواضعه؛ عزيزٌ في الناس نظيره وشِبهه.
ومما اشتهر به رحمه الله صبره وجلده، فقد عاش همّ الدعوة منذ صغره، فما فترت عزيمته؛ ولا لانت عريكته، يثابر في الدعوة والعلم والتعليم، لا يسأم ولا يتململ، لم أره قط لأحدٍ شاكياً.
لقد كان رحمه الله مضرب المثل في الدعوة، بل كان بحق؛ فارساً من فرسانها. يضرب البلاد هنا وهناك؛ للمشاركة في الدروس والمحاضرات والكلمات. دون كلل أو ملل.
كان يحتمل المكاره في سبيل الدعوة، يسافر بالشباب ويعتني بهم ويصبر على الأذى، ضحى بوقته وجهده؛ لأجل توجيههم وترغيبهم في الخير.
ولم يكن أثره في بلده فحسب بل كانت بصماته واضحة في مدن وقرى عديدة. فمن جامع ابن رخيص إلى البجادية إلى عقلة الصقور... وغيرها، وبحكم علاقتي به في جمعية تحفيظ القرأن الكريم بالمذنب، فقد كان رحمه الله يتابع بعض الحِلق البعيدة بنفسه. رغم كثرة مشاغله والتزاماته.
لقد كان همّ الدعوة يسري في دمه وينبض به قلبه، حتى إن له في هذا الميدان، تراثٌ مطبوع ومسموع، ككتاب" أبواب في العلم والدعوة والتربية"، وشريط " فرسان الدعوة".
كان رحمه الله يحثني دائماً على المشاركة في إلقاء الكلمات والدروس، في المدارس والمناشط الدعوية،وكلفني بذلك حيث كان مشرفاً للتوعية الإسلامية. وهذا دأبه مع إخوانه وتلاميذه، يستحث خطاهم في الدعوة إلى الله ويشجعهم على ذلك، بل كان يربيهم وهم بصحبته على إلقاء الدروس والكلمات. ويسمع منهم ويشكرهم ويدعو لهم.
كان رحمه الله جواداً باذلاً، ينفق في الدعوة إلى الله الشيء الكثير، ويكفي في جوده أنه جاد بنفسه لخدمة دينه ونفع أمته، حتى صدق فيه وصف الشاعر:
يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن جوده احتسابه في كثير من الأعمال التي ترك رحيله فراغاً فيها، فمن ذلك: عنايته بمكتبة جامعه(ابن رخيص) وتجهيزه لها، ومتابعة مغسلة الأموات المجاورة للجامع، وإلقاء خطب الجمعة والدروس العلمية، وبرنامج حفظ المتون، وإدارته للشئون التعليمية بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمذنب، والمشاركة في المحاضرات والكلمات، وكتابة المقالات، واحتسابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وغير ذلك.
ورغم أنه لم يكن موسراً لا سيما زمن دراسته، فقد بذل من ماله مالم يبذله أهل السعة والثراء، فكانت سيارته (هايلكس م89) مضرب المثل، في سبيل الدعوة حتى جابت البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فلله دره ما أجوده وأكرمه.
ومن كريم سجاياه: سلامة قلبه ورحابة صدره ومحبته لإخوانه فلم يكن يحمل في قلبه على أحد من إخوانه غلاً أو حسداً على نعمة وهبه الله إياها، بل كان يفرح بذلك ويبتدر أخاه بالتهنئة والبشارة، ومهما اختلفت معه في الرأي، فلا يمكن أن يكون لذلك أثر في نفسه، أذكر في مواقف عديدة لربما اختلف معه بعض إخوانه من طلبة العلم، فكان يحترم رأي مخالِفه، ويمد جسور التواصل في أي عمل دعوي وإن تباينت الأراء، واختلفت وجهات النظر.
لم يكن رحمه الله يتحجر واسعاً بل كان بعيد الأفق ثاقب النظر في كثير من المواقف، لاسيما زمن الفتن التي ضل بها أناس، ووقع بها التباس.
ومع خبرته الطويلة في الدعوة، فقد كان يستشير إخوانه وطلابه في كثير من المواقف. دون أن يستبد برأيه.
ورغم تلك الهمة العليّة، والعزيمة والجديّة، في الدعوة والتربية إلا أن المزاح إلفه، والبسمة لا تفارق محياه، كان رحمه الله خفيف الظلِّ، بعيداً عن الإسفاف والاستخفاف، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، عفيف النفس، حسن السيرة، نقي السريرة.
وأخيراً...ما ذا عسى أن أبوح به، وما ذكرت فيه غيظ من فيض، غير أن عزائي أن أبا حذيفة وإن كنا قد فارقتنا نفسه... فإنا لم نفارق أنفاسه... فإن له مآثر شاهدة على بذله وجهاده.
وقد حدثني جمع من أهل العلم والفضل أن محبي الشيخ ومقربيه، بصدد جمع تراثه العلمي والدعوي أرجو أن ترى النور قريباً لتكون – بإذن الله تعالى- أجراً لا ينقطع لفقيدنا الذي بذل الكثير لأجل العلم والدعوة.
ولإن كان ورثته من صلبه إناثاً...فقد ورّث بدعوته المباركة ذكوراً كُثر، تخرجوا على يديه وأحسبهم حذوا حذوه في الدعوة والعلم والتعليم.
إنما كـان شـهاباً ثاقباً ... صعـق الّليـل لـه ثم خمد
لا رجـاءٌ في خلود كلّنا ... واردُ المـاءِ الذي كان ورد
اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها.
اللهم اغفر لعبدك أبي حذيفة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واجمعنا به في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.